كليمنس بريسينجر، وأوليفر كيرُي، وبول دوروش، وجوزيف جلاوبر، وديفيد لابورد
تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في تعطيل الإنتاج الزراعي والتجارة من إحدى أهم مناطق العالم لتصدير المواد الغذائية، وتهدد الحرب بارتفاعٍ أسعار المواد الغذائية المتزايدة بالفعل، وستؤدي كذلك إلى ندرتها، ولا سيما في المناطق الأكثر اعتمادًا على القمح والصادرات الأخرى من روسيا وأوكرانيا – وتحديدًا بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
يواجه السودان مجموعة مختلفة من الظروف الصعبة بسبب تلك الاضطرابات التي تلوح في الأفق. وكما هو الحال مع البلدان الأخرى في المنطقة، يُعتبر القمح عنصرًا غذائيًا رئيسيًا في السودان، ويأتي في المرتبة الثانية بعد الذرة الرفيعة كمصدر للسعرات الحرارية، حيث يمثل 530 سعرًا حراريًا من استهلاك الفرد في اليوم الواحد، أي خمس إجمالي الاستهلاك اليومي المقدر بنحو 2,576 سعرًا حراريًا. ولا يزرع السودان سوى نسبة 15٪ فقط من القمح المستهلك محليًا، وربما تتقلص هذه النسبة بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة والطاقة؛ واعتمد في السنوات الأخيرة على استيراد النسبة المتبقية، وأغلبيتها من روسيا وأوكرانيا. وإضافةً إلى نقاط الضعف المذكورة، أخذت أسعار القمح والوقود في الارتفاع بالفعل قبل بدء الحرب، مما أدى إلى تفاقم مخاطر زيادة انعدام الأمن الغذائي.
رسم توضيحي رقم 1: تطور واردات القمح في السودان
ما الذي أدى إلى هذا الوضع، وما مدى خطورته، وما الذي يمكن القيام به لتفادي مزيد من الأزمات في المستقبل؟
يلعب كلُ من القمح والخبز دورًا محوريًا في تحقيق الأمن الغذائي والاستقرار السياسي في السودان. ونلاحظ نموًا متسارعًا في الطلب على القمح في السنوات الخمسة عشر إلى العشرين سنةً الماضية، ولا سيما في المناطق الحضرية التي يعيش بها 35٪ من السكان، ويرجع السبب الأساسي لذلك في النمو السكاني وتغير تفضيلات المستهلكين بالنسبة للخبز وغيره من منتجات القمح، ومن هنا نستنتج الأهمية السياسية للقمح، وقد أعقبت الاحتجاجات واسعة النطاق تغيرًا في سعر الخبز البلدي المدعوم خلال السنوات الأخيرة، فقد أدت الزيادة الحادة في سعر مبيعات الخبز البلدي في ديسمبر/كانون الأول 2018، على سبيل المثال، إلى احتجاجات ضخمة في الشوارع.
على مدى العقد الماضي، اعتمد السودان على استيراد القمح بنسبة 85٪ تقريبًا من إمداداته، مما يُكلف البلاد حوالي 500 مليون دولار سنويًا (شبكة الإنذار المبكر بالمجاعات 2015؛ والبنك الدولي 2020). ويتركز إنتاج القمح المحلي، الذي يمثل باقي الإمدادات (15 في المائة)، في ولاية الجزيرة في مشروع الجزيرة، أحد أكبر مشروعات الري في العالم. ويعد متوسط العائد الوطني منخفضًا (حوالي 2 طن للهكتار الواحد)، وربما يمكن زيادة مساحة زراعة القمح، إلا أن هذا سيكون على حساب سلع زراعية أخرى عالية القيمة.
شهدت أسعار القمح ارتفاعًا وتقلبات حادة قبل الصراع الروسي الأوكراني، نتيجة لعدد من المشكلات المحلية، ومنها على سبيل المثال، ارتفاع معدلات التضخم وزعزعة الاستقرار السياسي، وهو ما أسفر عن عواقب وخيمة على الاقتصاد السوداني. بدأت أسعار القمح في الارتفاع في عام 2019، وشهدت ارتفاعًا حادًا مؤخرًا (رسم توضيحي رقم 2).
رسم توضيحي رقم 2: أسعار القمح والخبز المحليين في السودان (جنيه سوداني)
المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية. ملاحظة: التكلفة الخاصة لدقيق القمح تشمل الدعم (قبل يناير/كانون الثاني 2022).
وترجع الزيادة الأخيرة في أسعار القمح في عام 2021 إلى حدٍ كبير وبالتحديد إلى التضخم المحلي الإجمالي، ونقص العملات الأجنبية الذي أدى إلى الحد من واردات القمح، والانخفاض السريع في سعر الصرف، واستمرار انخفاض إنتاجية القمح المحلي. بالإضافة إلى ذلك، أسفر رفع الدعم عن الوقود في يونيو/حزيران 2021 في زيادة تكاليف الإنتاج التي يتحملها المزارعون وأصحاب المخابز للحصول على الخامات الغير مدعومة مثل المياه والخميرة وغاز الطهي والعمالة والنفط. وقد تفاقمت الضغوط التضخمية أكثر بسبب انخفاض التمويل المقدم من الجهات المانحة الدولية في أعقاب الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وتوقف العديد من المخابز عن العمل بسبب زيادة تكاليف الإنتاج عن سعر البيع الرسمي للخبز البلدي المدعوم.
واشتدت حدة تلك المشكلات مع حلول عام 2022، حيث قامت الحكومة السودانية في الأول من يناير/ كانون الثاني برفع كافة صور الدعم على القمح (الحبوب والدقيق والخبز)، مما اضطر الكثير من شركات الطحن إلى شراء الحبوب من السوق المفتوحة بأسعار أعلى (النيلين 2021؛ آباي 2021)، وخلال الفترة من يوليو/تموز 2021 وفبراير/شباط 2022 ارتفعت أسعار شراء القمح بالجملة في الخرطوم بنسبة 112٪ (حوالي 60٪ بالقيمة الحقيقية).
أعقب ذلك، الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أدى إلى توقف صادرات القمح من تلك البلدان وارتفاع أسعار القمح المستورد. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الخبز أيضًا نتيجة ارتفاع أسعار القمح وزيادة تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز.
قفز سعر الغاز المستخدم كوقود للطبخ في معظم المخابز مؤخرًا بنسبة 56 في المائة؛ وقفز سعر جركن النفط بنسبة 67 في المائة. كما يؤدي ارتفاع أسعار القمح والنفط إلى الضغط على احتياطيات النقد الأجنبي، وهو ما دفع الحكومة لاتخاذ قرارها الأخير ببيع الذهب لتمويل المزيد من الواردات الغذائية قبل حلول شهر رمضان القادم لمواجهة زيادة استهلاك الأسر للغذاء بشكلٍ حاد. (اضطرت السلطات إلى زيادة عائدات السحب من تجارة الذهب لدفع ثمن واردات السلع الاستراتيجية).
من أجل فهم ديناميكيات السوق هذه بشكلٍ أفضل، أجرينا عمليات محاكاة باستخدام نموذج التوازن الجزئي. وتُشير نتائج هذه العمليات إلى أن الزيادة الكبيرة في أسعار سوق القمح الاسمية والحقيقية خلال الفترة من أغسطس/آب 2021 وفبراير/شباط 2022 تتزامن مع انخفاض بنسبة 24 في المائة في واردات القمح وانخفاض بنسبة 15 في المائة في إجمالي استهلاك القمح (بما في ذلك القمح المستهلك في صورة خبز). ومن المتوقع أن تؤدي الزيادة الأخيرة في الأسعار العالمية المرتبطة بالحرب الأوكرانية إلى زيادة إضافية في أسعار سوق استيراد القمح وإنتاجه محليًا بحوالي 20 في المائة، وتراجع في واردات القمح بنسبة 9 في المائة، وانخفاض طلب المستهلكين على منتجات القمح بنسبة 5 في المائة (رسم توضيحي رقم 3).
رسم توضيحي رقم 3: آثار صدمات أسعار الواردات على سوق القمح في السودان
المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية. المصدر: عمليات محاكاة نموذج القمح في السودان
وتعد الأسر الفقيرة التي تعيش في المناطق الحضرية هي الأكثر تضررًا من تلك الأزمة، حيث انخفض استهلاكها من القمح بنسبة 16 إلى 19 في المائة بين يوليو/تموز 2021 وفبراير/شباط 2022 بسبب التغييرات التي طرأت على السياسة المحلية، ثم زادت تلك النسب بواقع 5 في المائة أخرى في مارس/آذار 2022 (رسم توضيحي رقم 4). وتتشابه النسب المئوية للانخفاض في استهلاك القمح، ولكنها أقل حدة نسبيًا بالنسبة لمجموعات أخرى من الأسر. وكانت رفاهية الأسر الفقيرة التي تعيش في المناطق الريفية، والتي تشكل غالبية السكان في السودان، هي الأقل تأثرًا بصدمات سوق القمح نظرًا لانخفاض نصيب الفرد نسبيًا من استهلاك منتجات القمح في عام 2022 (حوالي 12 كجم فقط للفرد).
رسم توضيحي رقم 4: آثار صدمات أسعار القمح العالمية على استهلاك الأسر من القمح في السودان
المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية. المصدر: عمليات محاكاة نموذج القمح في السودان
يُشير النموذج إلى أن الاضطرابات في سوق القمح العالمية بسبب الحرب الأوكرانية كان لها تأثيرًا كبير ًاعلى سوق القمح في السودان، رغم أن التأثير يقدر بحوالي نصف حجم الصدمة السلبية التي تعرضت لها البلاد في يوليو/تموز 2021 – فبراير/شباط 2022. ومع ذلك، فإن التأثير المشترك لصدمات أسعار القمح له عواقب وخيمة على الاقتصاد الغذائي في السودان، وخاصةً على الأسر الفقيرة التي تسكن في المناطق الحضرية.
بالإضافة إلى معالجة الآثار المباشرة للأزمة الحالية، فينبغي على السودان ان يعمل على بناء قدرته على الصمود من أجل تقليل آثار الأزمة القادمة. ونعرض أدناه العديد من التدابير السياسية التي ينبغي وضعها في الاعتبار:
- زيادة الاستثمار في البنية التحتية للطرق والأسواق الأخرى من أجل خفض تكاليف المعاملات ورفع أسعار المنتجين وتحسين أداء الأسواق وكفاءتها.
- بذل جهود بحثية وإرشادية إضافية لزيادة إنتاج بدائل القمح، بما في ذلك الذرة الرفيعة والدخن المقاومة للجفاف في الأراضي غير المروية ومحاصيل التصدير عالية القيمة في الأراضي المروية. ومن المحتمل أن يؤدي هذا التحول في الإنتاج إلى زيادة حصيلة النقد الأجنبي وتعزيز النمو العام والعمالة.
- بعد رفع الدعم عن الخبز، ينبغي التفكير في تطبيق نظام للتحويلات النقدية يستهدف الأسر الأكثر فقرًا. ويمكن أن يستند برنامجًا كهذا على خبرات برنامج دعم الأسرة السودانية (ثمرات)، الذي بدأ تنفيذه عام 2021 ثم توقف، إلى جانب الدروس المستفادة من برامج التحويلات النقدية الناجحة المنفذة في بلدان أخرى، ومنها برنامج تكافل وكرامة في مصر. وينبغي قياس حجم التحويلات النقدية بعناية، وربما يلزم تعديله بشكل متكرر مع تغير أسعار القمح والتضخم.
- ينبغي معالجة الفجوات في بيانات الأمن الغذائي، وزيادة القدرة على رصدها وتحليلها. وقد يتطلب الاستهداف الدقيق لبرامج التحويلات النقدية أو العينية بيانات حديثة عن الأسرة، وينبغي كذلك تعزيز قدرة القطاع العام من أجل زيادة فعالية هيئات وضع المعايير لتنفيذ لوائح مراقبة جودة دقيق القمح، وضمان المنافسة في سوق طحن القمح، وإنشاء برنامج التحويلات النقدية وإدارتها بشكلٍ فعال.
يمكن أن يساعد تنفيذ بعض من هذه العناصر أو جميعها في بناء نظام قادر على الصمود أمام الأزمات لزراعة القمح والأغذية الزراعية الأخرى في السودان، مما يوفر للأسر السُبل اللازمة لتحمل الصدمات الاقتصادية المستقبلية بشكلٍ أفضل.
كليمنس بريزنجر هو باحث زميل أول وقائد برنامج كينيا لدعم الاستراتيجية في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية؛ وأوليفر كيرُي هو زميل بحثي مع شعبة استراتيجية التنمية في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية ومقره في الخرطوم بالسودان؛ وبول دوروش هو مدير شعبة استراتيجية التنمية؛ وكلاً من جوزيف جلاوبر وديفيد لابورد هو باحث زميل أول مع شعبة الأسواق والتجارة والمؤسسات.
تم ترجمة هذه المدونة من اللغة الانجليزية إلى اللغة العربية، وهذا رابط المدونة باللغة الانجليزية.
تم نشر هذه المدونة من موقع IFPRI الرئيسي. إنه جزء من سلسلة خاصة حول تداعيات الأمن الغذائي العالمية والإقليمية لارتفاع أسعار الغذاء والأسمدة التي بدأت مع الوباء وتفاقمت الآن بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. يتم تنسيق سلسلة المدونات من قبل كبار زملاء الأبحاث IFPRI جوزيف جلوبر وديفيد لابورد لتقديم مجموعة من وجهات النظر والتحليلات حول التأثيرات قصيرة وطويلة المدى. شاهد السلسلة الكاملة هنا.